لا تخضع الموسيقى لضوابط الحدود الجغرافية، هذا ما يؤمن به الفنان السوري باسم صالحة، الذي قدم مؤخرا مشروعا موسيقيا خاصا به، جمع فيه ثلة من أمهر العازفين من المنطقة العربية، ليعيدوا أداء عدد من أشهر المعزوفات بتوزيع جديد وبحضور آلات متنوعة تجسد وحدة الإنسانية ودور الإبداع في التعبير عن الشعوب وفي الجمع بينها.
دمشق – يرى الفنان السوري باسم صالحة أن الموسيقى لا تعترف بالحدود الجغرافية أو الاختلافات السياسية ولا تقف أمام الفن عوائق، كون الفن هو الإنسان بما هو أحد مقومات حضارة وبيئة وجدت في مكان محدد، فالتنوع والاختلاف في الحضارات أوجد المزيد من الغنى الثقافي للمبدعين الذين يتناولون الفنون بالمزيد من التفرد.
باسم صالحة موسيقي يتناول هذه الفكرة بإصرار من خلال مشروع موسيقي يقدم عبره موسيقى الشعوب والبيئات الحضارية المختلفة بأشكالها وتنوعاتها، وهدفه من ذلك إظهار أن الموسيقى هي لغة عالمية ابتكرها الجميع وتخاطب الجميع.
درس الفنان الموسيقى في سوريا وهو عازف متمكن على آلتي الكلارينيت والبيانو، شارك بصفته عازفا على الكلارينيت عددا من مشاهير الغناء العربي منهم جورج وسوف وميادة الحناوي ومروان خوري.
في أحدث ظهور له في مجال الحفلات الموسيقية قدم باسم صالحة يوم التاسع من نوفمبر الجاري حفلا فنيا في دار الأسد للثقافة والفنون “أوبرا دمشق” حمل عنوان “عوالم موسيقية على آلة الكلارينيت”، وعرض فيه موسيقات مختلفة (سورية وشمال أفريقية وتركية)، كما خصّص جزءا من عرضه للموسيقى التراثية.
تشكلت الفرقة الموسيقية التي رافقته من مجموعة من الآلات والإيقاعات مثل ساز (هوشنك حبش) وترومبون (محمود العاقل) وغيتار باص (ماهر شروف) وبيانو (علي سليمان) وإيقاع شرقي (راغب جبيل) وبيركشن (عمران أبويحي) درامز (فارس الدهان)، وكان التونسي ماهر عامر ضيفا بآلته التراثية، آلة المزود.
خطوات راسخة
كانت البداية مع الموسيقى اليونانية بمقطوعة “غوزيم” ثم موسيقى أغنية “سنين” ثم مقطوعة تراثية في شكل اللونغا التي تتميز بالسرعة وهي “كوثر هانم” للموسيقي التركي الشهير جميل الطنبوري، ثم قدم دولابا شهيرا لمصطفى كاندرالي، وكان لموسيقى بليغ حمدي حضورها في توزيع جديد لمقطع من أغنية “الحب كله” للسيدة أم كلثوم وكان هنالك انعطاف جريء نحو موسيقى تراثية شهيرة وأصيلة بتقديم مقاطع من أغنيتي “من أجل عينيك” و”القلب يعشق كل جميل” وهما من ألحان الموسيقار رياض السنباطي.
وقدم صالحة بمرافقة عازف آلة المزود، ماهر عامر، مقاربة موسيقية لمعزوفة طاهر ماملي الشهيرة “ضيعة ضايعة” ترك فيها مساحات كبيرة لهذه الآلة بمرافقة الكلارينيت والفرقة، كذلك قدمت حوارية بين آلتي الكلارينيت والترومبون وعزفها باسم صالحة ومحمود العاقل، وفي النهاية قدم لحنا كرديا تركت فيه مساحات للارتجال الموسيقي على مختلف الآلات المشاركة.
ويتابع باسم صالحة مشروعه الموسيقي بإصرار، وهو الذي قدم منذ أشهر حفلا في دار الأوبرا حمل عنوان “الكلارينيت تغني عبدالوهاب”. ويبدو أن للمشروع طموحاته التي لا تقف عند حد معين.
يقول باسم صالحة عن ذلك لصحيفة “العرب”، “نحن مصممون على تقديم الأفضل، أنا أؤمن بآلة الكلارينيت والألوان الموسيقية التي تستطيع تقديمها والثقافات المختلفة التي توجدها. هي آلة مرنة وهامة وأؤمن بجمالياتها ويجب أن تصل إلى أي إنسان وليس فقط إلى المتخصصين، إنها الآلة البطلة وملكة الآلات الموسيقية. في النهاية العازف هو سيد الموقف، أحرص على أن أكون في موقع صانع القرار فيما يقدم، نحن بإمكانياتنا يجب أن نقدم الأفضل لكي نطلع الجمهور على أي مستقبل موسيقي يمكن أن نذهب إليه، وعندي أفكار موسيقية في هذا المجال أحب أن أطبقها على أرض الواقع”.
ومن أبرز العازفين في المجموعة محمود العاقل، وهو عازف شهير على آلة الترومبون، وهي آلة أوركسترالية أساسية في أي فرقة سيمفونية تتمتع بصوت وحضور قوييْن، ومن النادر أن تكون لها مساحات في العزف الشرقي الذي يقوم على ضوابط وإيقاعات موسيقية محددة.
ويقول صالحة عن المشروع الموسيقي الذي جمعه مع العاقل لـ”العرب”: “التقيت مع العازف محمود العاقل من خلال مشاركتنا في الفرقة السيمفونية الوطنية السورية، وكنا نتجاذب أطراف الحديث أثناء الاستراحات، فأسمعه موسيقى ويسمعني أخرى، وبعد فترة اتفقنا على أن نقدم دويتو عزف مشترك، فقمت بإعداد تجربة موسيقية خاصة قدمناها سويا وختمناها باللحن الشهير ‘قدك المياس’ الذي يحاكي مشاعر الشرقيين من حيث بنية المقامات”.
موسيقى بلا حدود
يؤكد باسم صالحة أهمية فكرة تناول الموسيقى بأوسع قدر ممكن من التنوع ودون النظر إلى العوائق المفترضة، حيث يقول “لا حدود سياسية أو بشرية في الحالة الموسيقية، فلا فرق بين سوريا وفلسطين أو لبنان أو مصر التي فيها أكبر مكتبة موسيقية عربية، ذهبنا إلى أقاصي الأرض، يممنا شطر المغرب العربي بآلة موسيقية جميلة معروفة في تونس. الموسيقى تمثل حالة فنية واحدة في المنطقة ونحن نقدم من خلالها المقامات الموسيقية الشرقية التي نعزفها جميعا من المحيط إلى الخليج في الوطن العربي بل وفي إيران وتركيا ودول البلقان واليونان وألبانيا، وكذلك الموسيقى الكردية والقفقاسية، فلكل هذه المناطق موسيقى خاصة بها نقوم نحن بتقديمها”.
ويتابع “الموسيقى عابرة للجغرافيا ويمكن للإنسان أن يقدم موسيقى مختلفة لبيئات عديدة. ونحن في هذا المشروع نأخذ من موسيقى العالم ونضيف إليها بصمتنا فنقوم ببعض التغيرات في المقطوعات الموسيقية، سواء كانت إضافات بسيطة أو ارتجالات أو توزيعات موسيقية آلية أو هارمونية”.
ويعتبر الموسيقار رياض السنباطي رمزا لأصالة الموسيقى العربية، وكثيرا ما يلقب بحارس الموسيقى العربية، وقدم فيها مؤلفات أظهرت ملامحها الشرقية بتميز، ورغم ذلك تناول باسم صالحة البعض من مؤلفاته وقدمها بشكل جديد أدخل عليها التوزيع الموسيقي المختلف والآلات المختلفة.
وعن ذلك يقول الموسيقي السوري لـ”العرب”: “السنباطي هو أهم موسيقي عربي حفظ الموسيقى العربية الكلاسيكية وحماها من التدهور، قدمت لحني السنباطي ‘من أجل عينيك’ و’القلب يعشق كل جميل’ بهارموني جديد لم يقدم سابقا من خلال فرقة السيدة أم كلثوم وغيرت في الآلات قليلا وكذلك في الشكل، وأضفت آلتي الساز والكلارينيت الجديدتين في هذا الظهور وتم العزف بطريقة تخصنا وبهارموني جديد قدم فيه غيتار الباس وآلة الدرامز إضافة إلى البيانو.
العملان هما للموسيقار رياض السنباطي ومعروفان وأحببت أن أوجدهما في الحفل نظرا إلى المكانة المرموقة التي يتبوآنها، كما رغبنا في تقديم عملين من العيار الثقيل من كنوز المكتبة العربية للموسيقى العربية بطرحنا وبصمتنا الخاصة”.